الجماعة المسيحية.
صفحة 1 من اصل 1
الجماعة المسيحية.
الجماعة المسيحية.
قيل أنّ في وُجدان كلّ إنسان حاجة إلى الدين. والحاجة إلى الدين في ظنّي هي في عمقها عودة إلى الله, بل أكثر من ذلك. إنّ كيان الإنسان بأسره سئنّ توقاً إلى خالقه ولن يهدأ له حال, كما قال أوغسطينس, إلى أن يستقرّ في الله.
كلّ منّا يختبر, ولو في لحظة من عمره, ذلك التوق إلى الله بعمق وقوّة ما ظنّ يوماً أنهما جزء من كيانه. فنحسّ آنذاك بأهميّة حضور الله فينا, ونشعر بنشوة ما عرفناها من قبل. ولكن سرعان ما تهجرنا تلك المشاعر وكأنّ حضور الله فينا قد تبدّد, فأمسى كنجمة حطّت في سمائنا ليلة ورحلت. بيد أننا كنّا نأمل أن تستمرّ فينا تلك النشوة, فتكون بمثابة دفع لنا يُنعش خدمتنا لله كلّ يوم. نحن في حاجة إلى جماعة, إلى العيش في شراكة. ذلك أنّنا في طبعنا "اجتماعيّون" وفينا دوماً حاجة إلى أن نكون في علاقة بالآخر. نحن في حاجة إلى جماعة. نؤثّر الركوع للصلاة معاً وكأنّ حضور الله يتكثّف فيما بيننا عندما نكون مجتمعين باسمه. وهذا في الحقيقة ما أكّده لنا المسيح بقوله: "عندما يجتمع اثنان باسمي أكون أنا الثالث بينهم".
نحن نبحث عن جماعة أحياناً وكأنّنا نبحث عن ملجأ. ولكنّنا نقف على مقربة من الآخرين وننتظر, نتردّد وفي قلبنا وعقلنا مزيج من خوف من الجماعة وانجذاب إليها في آن.
عندما أفكّر كإنسان وأحسّ كإنسان ينتابني شعور بشيء من الوحشيّة, وتستيقظ في نفسي حاجة مُلحّة إلى أن أُحِب وأن أُحِبّ, وأتساءل في ما هو حسن وجميل, وما هو سيّء وقبيح, فأدخل في صراع جديد وفي حيرة, والقلب في قلق يبحث عن سلام, والعقل في حيرة يحاول فهم الحقيقة. ولن يهدأ القلق في القلب إلى أن يُبدّد العقل الشّك, فينعما معاً في سلام مزدوج.
هذا الشعور الذي ينتاب العديد من بيننا فيه بعض ضياع, وهو يقول لنا كم نحن في حاجة إلى شعور بالأمان والحرّيّة, إنّها الحاجة الحقيقيّة. تلك التي تُفرّح العقل وتُشبع القلب.
ولكنّ الأمان والحريّة هما نتيجة موقف إيجابي أتّخذه من الحياة في كلّ صباح, وأعود فأُجدّد الإلتزام به كُلّما شعرت بأنّ الشكوك عادت تُراودني, وبأنّ شيئاً ما يشدّني إلى أسفل, إلى القلق والسلبيّة.
أرفع طرفي إلى الله وأعود أبحث عمّا يُنعِشُ حياتي. وفي لحظات من الشراكة معه, أعود فأشعر بدفءٍ داخليّ وسلام في القلب. نحن في بؤسنا غالباً ما نصبح روحانيّين, ولكن يجب ألاّ تتحوّل الروحانيّة إلى بُرقع نحتمي وراءه, أو مُخدّر ينقلنا إلى أجواء خياليّة أو وهميّة. وعلينا أن نحذر كلّ الحذر من أن يشوب تلك الروحانيّة رياء أو نفاق.
ما من إنسان يشعر بتوق إلى أن يكون في شراكة مع الله إلاّ ويحسّ في الوقت نفسه بهشاشة كيانه البشريّ وضعفه أمام محبّة الله ورحمته.
ولا يُمكنني يوماً أن أقول إنّني وجدّت الله فأذهب وأسترخي, وكأنّ ما حدث غنيمةٌ أقفل بابي عليها وأستبقيها معي إلى ما لا نهاية. فالله ألتقيه كلّ يوم في خدمة سخيّة وصدق في الحُبّ, وحرارة في الصلاة. إنّ علاقتي بالله في حاجة إلى تغذية مُستمرّة وتجدّد يوميّ.
والشراكة مع الثالوث الذي فيه تتجلّى في أسمى آيات الشراكة, وهي دعوة إلى عيش حياة الجماعة بكلّ أبعادها. إنّ الشراكة مع الله لا تكتمل ولا تُصبح حقيقيّة إلاّ إذا ما أثمرت شراكة ثلاثيّة الأبعاد, تمتدّ من الله إلى الإنسان فأخيه الإنسان, ومن ثمّ تعود إلى الله الذي هو الحُبّ الأسمى.
هذه الشراكة هي من حياة الجماعة بمثابة القلب. وهي تمُرّ من خلال الإلتزام بتكوين الجماعة على أسس تتوطّد من خلالها الشراكة الثلاثيّة الأبعاد, لأنّها مبنيّة على روح من الأخوّة الصادقة التي لا تتحقّق إلاّ من خلال تكثيف روح العدل المقرون بالحُبّ, ذلك الذي يحترم حقّ كلّ من أفراد الجماعة في أن ينمو ويكبر بحسب قدراته, ووفق ما تُمليه عليه حرّيته, وما تتطلّبه الأمانة التامّة لِمعتقداته.
نحن في حاجة إلى كنيسة جامعة, ونحن أيضاً في حاجة إلى جماعة محلّيّة تتجسّد فيها الكنيسة الجامعة, ويشعر الكلّ فيها بدفء العائلة المُحبّة. وفيها يُكسر خبز الكلمة ليصبح غذاءً ينعم الكلّ به, فتكون الجماعة قلباً واحِداً ونفساً واحدة, يُكسَر فيها خبز المحبّة لكلّ مَن به حاجة, "فلا يكون فيهم مُحتاج".
هذه الجماعة تتكوّن, في ما خصّ المؤمن, حول الكنيسة المحليّة. والعديد من بيننا يجد نفسه على مقربة من الكنيسة, ويشعر بأنّها تدعوه, ولكنّه قد يحسّ, في الوقت نفسه, بشيء من التردّد في الإقتراب والإلتزام, ولكنّه ما إنْ يقترب حتّى يبدأ يحسّ بشيء من الدفء والشراكة, إذ لا حياة للجماعة بمعزل عنهما.
وفي لحظة التردّد هذه, الممزوجة بتوق إلى الشراكة, علينا أن نتذكّر صدى صوت ذاك الغريب, وهو يقف على باب كلّ منّا يقرعه, وهو صوت يسوع يُسائلني كما ساءل بطرس يوماً: "وأنت مَن تقول إنّي هو؟". جواب بطرس كان وما زال يُدوّي في أرجاء الجماعة: "أنت المسيح ابن الله الحيّ". وهناك أيضاً صدى صوت أندراوس, وكان يرقص فرحاً وهو يُبشّر أخاه قائلاً: "لقد وجدنا المسيح". وهذا بعض صدىً لصوت الملاك المدوّي في سماء بيت لحم قائلاً: "لا تخافوا... وُلِدَ لكم اليوم مُخلّص...". أن تجد الجماعة المسيح فذاك أساس كيانها ومنبع هويّتها.
وصدى حضور المسيح المُخلّص في قلب الجماعة نسمعه ونراه في جوابه لتلاميذ يوحنّا الذين قصدوه ليسألوه عن هويّته. وأتى ذاك الجواب عَملاً لا كلاماً: "العميان يُبصرون, والعُرج يمشون, والبرص يطهرون, والصمّ يسمعون, والموتى يقومون, والفقراء يبشّرون... وطوبى لمَن لا يشكّ فيّ...". الجماعة التي تبني على المسيح لا بدّ وأن تبلسم وتعزّي وتشفي...
وهذا الحضور يعيدنا إلى نائين فنسمع صوت يسوع يأمر الميّت فيستجيب: "يا فتى, أقول لك: قم". ويقودنا مجدّداً إلى بيت عنيا حيث ما زالت دعوة يسوع للعازر تتردّد: "يا لعازر, هلمّ فاخرج". وهذا الحضور أيضاً ينقلنا إلى كفرناحوم حيث امتزج شفاء النفس بشفاء الجسد: "غُفِرت لك خطاياك". وها هي الحياة أمامك مُجدّداً "قم فاحمل سريرك واذهب إلى بيتك".
وهذا الحضور يُذكّرنا أخيراً بأنّ يسوع شاء أن يكمل تلاميذه المسيرة "فيجترحون ما اجترح من الآيات". وقرّر أيضاً أن يتماهى معهم, فيكون أنّ "مَن سمعهم سمعه هو, ومَن قَبِلهم قَبِله هو...". إنّ حضور كلّ فرد في الجماعة مُرشّح, بل هو مدعوّ إلى أن يأتي صدىً أميناً لحضور المعلّم, فيحسّ مَن يسمعه بأنّ في صوته حقاً نغمةً من صدى صوت المعلّم.
علينا أن نتذكّر هذه الأمور وسواها ونحن نتردّد ونطرح على أنفسنا أسئلة متعدّدة عن حقيقة ذاك الذي يقف على أبوابنا يقرعها.
لا يمكن لهذا الذي يشفي كما شفى يسوع, ويُقيم من الموت كما فعل, أن يكون شخصاً ماكراً أو مسيحاً دجّالاً. إنّه المخلّص وهو "ابن الله", وهو الباب الذي يدعوني إلى أن أدخل الحياة, ولو أنّ ذاك الباب يبدو لي ضيّقاً أحياناً... ومن المستحَبّ جداً أن يكون هذا الباب كنيستي المحليّة التي أدعوها رعيّتي, بالرّغم ممّا قد يكون أمام ذلك الباب من حواجز أشعر وكأنّها تمنعني من الإقتراب, عليّ دائماً أن أتذكّر أنّ يسوع ما اختار أفضل الناس من المنظار البشريّ ليكونوا خَدَمَة كنيسته وخلفاء رُسلِه.
قد يمنعني أحياناً من الإقتراب شعوري بأنّ ضعفي سوف يحول دون التزامي بما هو مطلوب ممّن يدخلون هذا الباب, إنّه لأكبر بكثير ممّا يُمكنني أن أعطي. وماذا سيقول عنّي الناس؟
عليّ أن أتذكّر دائماً أن الله هو الذي يدعو والروح القدس يعضد ضعفي ونعمة الله تكفيني...
يخبرنا القدّيس متّى كيف أنّ يسوع, بعد أن أشبع آلاف الناس من خمسة أرغفة وسمكتين, طلب إلى تلاميذه أن يركبوا السفينة ويتقدّموه إلى الشاطئ المقابل من بحر الجليل, ليأخذ بعض الوقت في خلوة الصلاة.
"وعند آخر الليل جاء إليهم ماشياً على البحر. فلمّا رآه التلاميذ ماشياً على البحر, اضطربوا وقالوا: "هذا خيال", ومن خوفهم صرخوا. فبادرهم يسوع بقوله: "ثِقوا, أنا هو, لا تخافوا". فأجابه بطرس: "يا ربّ, إن كُنتَ إيّاه, فمرني أن آتي إليك على الماء". فقال له: "تعال".
عندما يهبط من حولي الظلام أحياناً, أو تهُبّ العاصفة, أو يُخالجني الشّك... ها هو يقول لي: "ثق, أنا هو, لا تخف... تعال". وعندما تُرهقنا المشاغل وتتراكم علينا الهموم ونحسّ كأنّنا في ضياع وعلى وشك الإنهيار... فها هو يهمس في آذاننا: "تعالوا إليّ أيّها المُتعبون والثقيلو الأحمال, وأنا أريحكم...". تعالوا إليّ بكلّ ثقة لأنّي في الحقيقة أنا هو الذي يدعوكم ويداي ممدودتان...
عندما سمع بطرس صوت يسوع يدعوه, "نزل من السفينة ومشى على الماء آتياً إليه. ولكنّه خاف عندما رأى شدّة الريح, فأخذ يغرق, فصرخ: "يا ربّ نجّني".
نعم يا ربّ نجّني من الخوف الذي يتملّكني عندما تشتدّ الرياح في داخلي ومن حولي. نجّني من الخوف الذي يخلقه في نفسي الشّك في قدرتي على مواجهة المصاعب, والشّك في إيماني. نجّني من كبريائي وحرّرني من الخوف ممّا قد يقول الآخرون عنّي. وإذا ضعفتُ فهبني أن أقبل ذاتي مع ضعفي لأنهض مُجدّداً وأنطلق.
"فمدّ يسوع يده لوقته وأمسكه وهو يقول له: "يا قليل الإيمان لماذا شككت؟". ولمّا ركبا السفينة, وسكنت الريح, سجَدَ له الذين في السفينة وقالوا: "أنت حقاً ابن الله".
أنا أعرف يا ربّ أنّ يدك دائماً تمسك بيدي... أنا أؤمن يا ربّ فزدني إيماناً... إنّ إيمان هؤلاء الناس واعترافهم بمثل هذه الكلمات إنّما يُشعرني برهبة ممزوجة بفرح وسلام, لشعوري بأنّك غدوتَ قريباً هذا القرب كلّه منّي.
منذ عشرات السنين وأنا أحاول السير في نهج يسوع المسيح. وقد حدث لي أن عَبَرتُ في أنفاق من الشّك أحياناً, وتنقّلتُ أحياناً أخرى بخفّة على قِمَمٍ من الطمأنينة الداخليّة والسعادة التي يتعذّر عليّ وصفها... وكان يُخيّل إليّ تارة أنّني أسير على هدي نجم يلمع في سمائي وينير لي الطريق, وحيناً آخر كنتُ أحسّ بشكّ وكأنّ النور الذي يهديني قد غدا ظلاماً... وغالبا ما كنتُ أجد آنذاك في الجماعة قوّة جديدة, هي من قوّة مَن هو في قلب كلّ جماعة, يصغي ويُشجّع ويغفر...
أمّا الآن وقد بلغتُ حيث أنا, ومسيرتي تُقاربُ قمّتها, فإنّني أشعر بأنّ تفاصيل ما مررت به لم تعد مهمّة. فالمهمّ حقاً هو أنّني ما أضعتُ ذلك النجم في حياتي, ولا هو بَخَلَ بنوره يوماً عليّ, أوحيداً كنتُ أسيرُ في رفقته أم في قلب الجماعة. وأراني الآن مُدركاً حقاً مَن أحببتُ: إنّه المسيح ابن الله الحيّ.
قيل أنّ في وُجدان كلّ إنسان حاجة إلى الدين. والحاجة إلى الدين في ظنّي هي في عمقها عودة إلى الله, بل أكثر من ذلك. إنّ كيان الإنسان بأسره سئنّ توقاً إلى خالقه ولن يهدأ له حال, كما قال أوغسطينس, إلى أن يستقرّ في الله.
كلّ منّا يختبر, ولو في لحظة من عمره, ذلك التوق إلى الله بعمق وقوّة ما ظنّ يوماً أنهما جزء من كيانه. فنحسّ آنذاك بأهميّة حضور الله فينا, ونشعر بنشوة ما عرفناها من قبل. ولكن سرعان ما تهجرنا تلك المشاعر وكأنّ حضور الله فينا قد تبدّد, فأمسى كنجمة حطّت في سمائنا ليلة ورحلت. بيد أننا كنّا نأمل أن تستمرّ فينا تلك النشوة, فتكون بمثابة دفع لنا يُنعش خدمتنا لله كلّ يوم. نحن في حاجة إلى جماعة, إلى العيش في شراكة. ذلك أنّنا في طبعنا "اجتماعيّون" وفينا دوماً حاجة إلى أن نكون في علاقة بالآخر. نحن في حاجة إلى جماعة. نؤثّر الركوع للصلاة معاً وكأنّ حضور الله يتكثّف فيما بيننا عندما نكون مجتمعين باسمه. وهذا في الحقيقة ما أكّده لنا المسيح بقوله: "عندما يجتمع اثنان باسمي أكون أنا الثالث بينهم".
نحن نبحث عن جماعة أحياناً وكأنّنا نبحث عن ملجأ. ولكنّنا نقف على مقربة من الآخرين وننتظر, نتردّد وفي قلبنا وعقلنا مزيج من خوف من الجماعة وانجذاب إليها في آن.
عندما أفكّر كإنسان وأحسّ كإنسان ينتابني شعور بشيء من الوحشيّة, وتستيقظ في نفسي حاجة مُلحّة إلى أن أُحِب وأن أُحِبّ, وأتساءل في ما هو حسن وجميل, وما هو سيّء وقبيح, فأدخل في صراع جديد وفي حيرة, والقلب في قلق يبحث عن سلام, والعقل في حيرة يحاول فهم الحقيقة. ولن يهدأ القلق في القلب إلى أن يُبدّد العقل الشّك, فينعما معاً في سلام مزدوج.
هذا الشعور الذي ينتاب العديد من بيننا فيه بعض ضياع, وهو يقول لنا كم نحن في حاجة إلى شعور بالأمان والحرّيّة, إنّها الحاجة الحقيقيّة. تلك التي تُفرّح العقل وتُشبع القلب.
ولكنّ الأمان والحريّة هما نتيجة موقف إيجابي أتّخذه من الحياة في كلّ صباح, وأعود فأُجدّد الإلتزام به كُلّما شعرت بأنّ الشكوك عادت تُراودني, وبأنّ شيئاً ما يشدّني إلى أسفل, إلى القلق والسلبيّة.
أرفع طرفي إلى الله وأعود أبحث عمّا يُنعِشُ حياتي. وفي لحظات من الشراكة معه, أعود فأشعر بدفءٍ داخليّ وسلام في القلب. نحن في بؤسنا غالباً ما نصبح روحانيّين, ولكن يجب ألاّ تتحوّل الروحانيّة إلى بُرقع نحتمي وراءه, أو مُخدّر ينقلنا إلى أجواء خياليّة أو وهميّة. وعلينا أن نحذر كلّ الحذر من أن يشوب تلك الروحانيّة رياء أو نفاق.
ما من إنسان يشعر بتوق إلى أن يكون في شراكة مع الله إلاّ ويحسّ في الوقت نفسه بهشاشة كيانه البشريّ وضعفه أمام محبّة الله ورحمته.
ولا يُمكنني يوماً أن أقول إنّني وجدّت الله فأذهب وأسترخي, وكأنّ ما حدث غنيمةٌ أقفل بابي عليها وأستبقيها معي إلى ما لا نهاية. فالله ألتقيه كلّ يوم في خدمة سخيّة وصدق في الحُبّ, وحرارة في الصلاة. إنّ علاقتي بالله في حاجة إلى تغذية مُستمرّة وتجدّد يوميّ.
والشراكة مع الثالوث الذي فيه تتجلّى في أسمى آيات الشراكة, وهي دعوة إلى عيش حياة الجماعة بكلّ أبعادها. إنّ الشراكة مع الله لا تكتمل ولا تُصبح حقيقيّة إلاّ إذا ما أثمرت شراكة ثلاثيّة الأبعاد, تمتدّ من الله إلى الإنسان فأخيه الإنسان, ومن ثمّ تعود إلى الله الذي هو الحُبّ الأسمى.
هذه الشراكة هي من حياة الجماعة بمثابة القلب. وهي تمُرّ من خلال الإلتزام بتكوين الجماعة على أسس تتوطّد من خلالها الشراكة الثلاثيّة الأبعاد, لأنّها مبنيّة على روح من الأخوّة الصادقة التي لا تتحقّق إلاّ من خلال تكثيف روح العدل المقرون بالحُبّ, ذلك الذي يحترم حقّ كلّ من أفراد الجماعة في أن ينمو ويكبر بحسب قدراته, ووفق ما تُمليه عليه حرّيته, وما تتطلّبه الأمانة التامّة لِمعتقداته.
نحن في حاجة إلى كنيسة جامعة, ونحن أيضاً في حاجة إلى جماعة محلّيّة تتجسّد فيها الكنيسة الجامعة, ويشعر الكلّ فيها بدفء العائلة المُحبّة. وفيها يُكسر خبز الكلمة ليصبح غذاءً ينعم الكلّ به, فتكون الجماعة قلباً واحِداً ونفساً واحدة, يُكسَر فيها خبز المحبّة لكلّ مَن به حاجة, "فلا يكون فيهم مُحتاج".
هذه الجماعة تتكوّن, في ما خصّ المؤمن, حول الكنيسة المحليّة. والعديد من بيننا يجد نفسه على مقربة من الكنيسة, ويشعر بأنّها تدعوه, ولكنّه قد يحسّ, في الوقت نفسه, بشيء من التردّد في الإقتراب والإلتزام, ولكنّه ما إنْ يقترب حتّى يبدأ يحسّ بشيء من الدفء والشراكة, إذ لا حياة للجماعة بمعزل عنهما.
وفي لحظة التردّد هذه, الممزوجة بتوق إلى الشراكة, علينا أن نتذكّر صدى صوت ذاك الغريب, وهو يقف على باب كلّ منّا يقرعه, وهو صوت يسوع يُسائلني كما ساءل بطرس يوماً: "وأنت مَن تقول إنّي هو؟". جواب بطرس كان وما زال يُدوّي في أرجاء الجماعة: "أنت المسيح ابن الله الحيّ". وهناك أيضاً صدى صوت أندراوس, وكان يرقص فرحاً وهو يُبشّر أخاه قائلاً: "لقد وجدنا المسيح". وهذا بعض صدىً لصوت الملاك المدوّي في سماء بيت لحم قائلاً: "لا تخافوا... وُلِدَ لكم اليوم مُخلّص...". أن تجد الجماعة المسيح فذاك أساس كيانها ومنبع هويّتها.
وصدى حضور المسيح المُخلّص في قلب الجماعة نسمعه ونراه في جوابه لتلاميذ يوحنّا الذين قصدوه ليسألوه عن هويّته. وأتى ذاك الجواب عَملاً لا كلاماً: "العميان يُبصرون, والعُرج يمشون, والبرص يطهرون, والصمّ يسمعون, والموتى يقومون, والفقراء يبشّرون... وطوبى لمَن لا يشكّ فيّ...". الجماعة التي تبني على المسيح لا بدّ وأن تبلسم وتعزّي وتشفي...
وهذا الحضور يعيدنا إلى نائين فنسمع صوت يسوع يأمر الميّت فيستجيب: "يا فتى, أقول لك: قم". ويقودنا مجدّداً إلى بيت عنيا حيث ما زالت دعوة يسوع للعازر تتردّد: "يا لعازر, هلمّ فاخرج". وهذا الحضور أيضاً ينقلنا إلى كفرناحوم حيث امتزج شفاء النفس بشفاء الجسد: "غُفِرت لك خطاياك". وها هي الحياة أمامك مُجدّداً "قم فاحمل سريرك واذهب إلى بيتك".
وهذا الحضور يُذكّرنا أخيراً بأنّ يسوع شاء أن يكمل تلاميذه المسيرة "فيجترحون ما اجترح من الآيات". وقرّر أيضاً أن يتماهى معهم, فيكون أنّ "مَن سمعهم سمعه هو, ومَن قَبِلهم قَبِله هو...". إنّ حضور كلّ فرد في الجماعة مُرشّح, بل هو مدعوّ إلى أن يأتي صدىً أميناً لحضور المعلّم, فيحسّ مَن يسمعه بأنّ في صوته حقاً نغمةً من صدى صوت المعلّم.
علينا أن نتذكّر هذه الأمور وسواها ونحن نتردّد ونطرح على أنفسنا أسئلة متعدّدة عن حقيقة ذاك الذي يقف على أبوابنا يقرعها.
لا يمكن لهذا الذي يشفي كما شفى يسوع, ويُقيم من الموت كما فعل, أن يكون شخصاً ماكراً أو مسيحاً دجّالاً. إنّه المخلّص وهو "ابن الله", وهو الباب الذي يدعوني إلى أن أدخل الحياة, ولو أنّ ذاك الباب يبدو لي ضيّقاً أحياناً... ومن المستحَبّ جداً أن يكون هذا الباب كنيستي المحليّة التي أدعوها رعيّتي, بالرّغم ممّا قد يكون أمام ذلك الباب من حواجز أشعر وكأنّها تمنعني من الإقتراب, عليّ دائماً أن أتذكّر أنّ يسوع ما اختار أفضل الناس من المنظار البشريّ ليكونوا خَدَمَة كنيسته وخلفاء رُسلِه.
قد يمنعني أحياناً من الإقتراب شعوري بأنّ ضعفي سوف يحول دون التزامي بما هو مطلوب ممّن يدخلون هذا الباب, إنّه لأكبر بكثير ممّا يُمكنني أن أعطي. وماذا سيقول عنّي الناس؟
عليّ أن أتذكّر دائماً أن الله هو الذي يدعو والروح القدس يعضد ضعفي ونعمة الله تكفيني...
يخبرنا القدّيس متّى كيف أنّ يسوع, بعد أن أشبع آلاف الناس من خمسة أرغفة وسمكتين, طلب إلى تلاميذه أن يركبوا السفينة ويتقدّموه إلى الشاطئ المقابل من بحر الجليل, ليأخذ بعض الوقت في خلوة الصلاة.
"وعند آخر الليل جاء إليهم ماشياً على البحر. فلمّا رآه التلاميذ ماشياً على البحر, اضطربوا وقالوا: "هذا خيال", ومن خوفهم صرخوا. فبادرهم يسوع بقوله: "ثِقوا, أنا هو, لا تخافوا". فأجابه بطرس: "يا ربّ, إن كُنتَ إيّاه, فمرني أن آتي إليك على الماء". فقال له: "تعال".
عندما يهبط من حولي الظلام أحياناً, أو تهُبّ العاصفة, أو يُخالجني الشّك... ها هو يقول لي: "ثق, أنا هو, لا تخف... تعال". وعندما تُرهقنا المشاغل وتتراكم علينا الهموم ونحسّ كأنّنا في ضياع وعلى وشك الإنهيار... فها هو يهمس في آذاننا: "تعالوا إليّ أيّها المُتعبون والثقيلو الأحمال, وأنا أريحكم...". تعالوا إليّ بكلّ ثقة لأنّي في الحقيقة أنا هو الذي يدعوكم ويداي ممدودتان...
عندما سمع بطرس صوت يسوع يدعوه, "نزل من السفينة ومشى على الماء آتياً إليه. ولكنّه خاف عندما رأى شدّة الريح, فأخذ يغرق, فصرخ: "يا ربّ نجّني".
نعم يا ربّ نجّني من الخوف الذي يتملّكني عندما تشتدّ الرياح في داخلي ومن حولي. نجّني من الخوف الذي يخلقه في نفسي الشّك في قدرتي على مواجهة المصاعب, والشّك في إيماني. نجّني من كبريائي وحرّرني من الخوف ممّا قد يقول الآخرون عنّي. وإذا ضعفتُ فهبني أن أقبل ذاتي مع ضعفي لأنهض مُجدّداً وأنطلق.
"فمدّ يسوع يده لوقته وأمسكه وهو يقول له: "يا قليل الإيمان لماذا شككت؟". ولمّا ركبا السفينة, وسكنت الريح, سجَدَ له الذين في السفينة وقالوا: "أنت حقاً ابن الله".
أنا أعرف يا ربّ أنّ يدك دائماً تمسك بيدي... أنا أؤمن يا ربّ فزدني إيماناً... إنّ إيمان هؤلاء الناس واعترافهم بمثل هذه الكلمات إنّما يُشعرني برهبة ممزوجة بفرح وسلام, لشعوري بأنّك غدوتَ قريباً هذا القرب كلّه منّي.
منذ عشرات السنين وأنا أحاول السير في نهج يسوع المسيح. وقد حدث لي أن عَبَرتُ في أنفاق من الشّك أحياناً, وتنقّلتُ أحياناً أخرى بخفّة على قِمَمٍ من الطمأنينة الداخليّة والسعادة التي يتعذّر عليّ وصفها... وكان يُخيّل إليّ تارة أنّني أسير على هدي نجم يلمع في سمائي وينير لي الطريق, وحيناً آخر كنتُ أحسّ بشكّ وكأنّ النور الذي يهديني قد غدا ظلاماً... وغالبا ما كنتُ أجد آنذاك في الجماعة قوّة جديدة, هي من قوّة مَن هو في قلب كلّ جماعة, يصغي ويُشجّع ويغفر...
أمّا الآن وقد بلغتُ حيث أنا, ومسيرتي تُقاربُ قمّتها, فإنّني أشعر بأنّ تفاصيل ما مررت به لم تعد مهمّة. فالمهمّ حقاً هو أنّني ما أضعتُ ذلك النجم في حياتي, ولا هو بَخَلَ بنوره يوماً عليّ, أوحيداً كنتُ أسيرُ في رفقته أم في قلب الجماعة. وأراني الآن مُدركاً حقاً مَن أحببتُ: إنّه المسيح ابن الله الحيّ.
ندى الور- مساعد المشرف العام
- عدد المساهمات : 2691
نقاط : 7825
تاريخ التسجيل : 02/05/2009
العمر : 47
مواضيع مماثلة
» ما هو السلام في المسيحية؟ What is peace in Christianity
» الصوم في المسيحية.
» اجمل قصة حب في المسيحية
» الخمر في المسيحية، هل هو محلل؟
» الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات المسيحية في فلسطين
» الصوم في المسيحية.
» اجمل قصة حب في المسيحية
» الخمر في المسيحية، هل هو محلل؟
» الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات المسيحية في فلسطين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى