جبل نبو

صعد النبي موسى من أرض مؤآب إلى جبل نبو إلى قمّة الفسحة تجاه أريحا. "فأراه الرّب جميع الأرض, وقال له إلى هناك لا تعبر". فمات موسى هناك ودُفن في الوادي, في أرض موآب تجاه بيت فغور, ولم يعرف أحد قبره إلى يومنا هذا (سفر تثنية الإشتراع, الفصل ٣٤). ويقع جبل نبو المذكور إلى الغرب من مدينة مادبا, ويشرف على مصبّ نهر الأردن, وعلى مدينة أريحا. وقد سمّي هذا الجبل أيضا "الصياغة" وهي كلمة سريانيّة تعني الحدّ والصومعة والدّير. وربّما أعطي هذا الإسم بمعنى الحد للدلالة على أن موسى النبي توفي هناك ولم يعبر إلى أرض الوعد, فكانت حدا له, وللدلالة على الأديرة الكثيرة التي كانت على الجبل وحول عيون موسى.
كرّم أجدادنا موسى النبي. وما الآثار القائمة حتى الآن سوى البرهان الساطع على ذلك. فالحاجّة الإسبانية اثيريا, التي زارت الأماكن المقدّسة سنة ٣٩٤, كتبت يوميّات حجّها تحت عنوان "يوميّات سفر" ووصفت فيها ما رأته وما كان يجري في الأراضي المقدّسة. وقد زارت مقام موسى النبي على جبل نبو / الصياغة, وذكرت أنّ رهبانا قدّيسين يعيشون هناك, وانهم يحسنون الضيافة. وقد لاحظت فوق قمّة الجبل معبدا صغيرا, وعلى جانبيه مقاما مرتفعا قليلا عن سطح الأرض, أقيم لذكرى موسى النبي. وكانت المنطقة كلها تابعة دينيّا لمطرانيّة مادبا. وبعدها بحوالي مائة سنة, أي في نهاية القرن الخامس, زار الجبل أسقف من جورجيا واسمه بطرس الأبيري, وكتب في مذكرات حجّه أنّ هناك معبدا كبيرا أقامه سكان المنطقة بتبرعاتهم السخيّة إكراما لموسى النبي.
وقد تعرّض المقام والكنيسة والأديرة إلى ما تعرّضت له البلاد من حوادث سياسيّة وعسكريّة, وبخاصّة إلى ما تعرّضت له البلاد من هزّات أرضيّة عنيفة. فالزلزال الكبير الذي وقع سنة ٥٥١ م قد دمّر الكنيسة الكبيرة تدميرا, ولكن أهل المنطقة أعادوا بناءها وانتهى العمل سنة ٥٩٧. وقد دُمّرت الكنيسة والأديرة مرّة أخرى بفعل الزلزالين اللذين حدثا سنة ١۰١٦ وسنة ١۰٣٣. وفي سنة ١٢١٧ مرّ بتلك المنطقة سائحا كان متجها إلى الشوبك, فذكر أنّ عددا قليلا من المسيحيين يقيمون في جبل نبو. وزار المكان سنة ١٥٦٤ راهب فرنسيسكاني, فلم يجد إلا أخربة مهجورة. وفي ٤ تشرين الأول سنة ١٩٣٢ أصبح جبل نبو / الصياغة ملكا للآباء الفرنسيسكان.
وقد توصّل علماء الآثار بفعل التنقيب والبحث والدراسات العلميّة, إلى إزالة القناع عن تاريخ هذا المكان المقدّس. ففي القرن الرابع الميلادي, كان مكونا من ثلاث بنايات قبويّة, قائمة حيث المذبح الآن. وكان لهذا المكان المقدّس دهليزا مخفيا كبيرا, يضمّ عددا من القبور المزخرفة بالفسيفساء. وعلى جانبيه كنيستان صغيرتان للقيام بصلوات دفن الموتى, وفي طرفه الشمالي جرن المعموديّة, بينما أرضيّة الجزء الجنوبي منه يزيّنها صليب كبير. ومكان المعموديّة مغطى أيضا بالفسيفساء. وقد قام بإنجاز هذا العمل الفنيّ الرائع الفنانون سهيل وقيام والياس, في شهر آب سنة ٥٣١ م. أما الكنيسة ذات الصحون الثلاثة, فقد بُنيت عام ٥٩٧ م في عهد سرجيوس أسقف مادبا. وقد أضيف إليها سنة ٦۰٨ كنيسة صغيرة للعذراء مريم أمّ الله, وعُثر فيها على هذه الكتابة: "أيّها المسيح إلهنا, خالق كلّ شيء ومبدعها, لقد تمّ العمل في كنيسة والدة الله, بفضل سماح الأسقف القدّيس ليونسيوس, وبجهود الكاهنين رئيسي الدير مرتيريوس وثيودورس".
كل ذلك يدلّ على تكريم المسيحيين المستمر لموسى النبي الذي وصفه يشوع بن سيراخ قائلا: "كان محبوبا عند الله والناس, مبارك الذكر, أتاه مجدا كمجد القدّيسين, واصطفاه من بين جميع البشر".