مقام اانبي ايليا

يكرّمون الناس إيليّا منذ قديم الزمان على قمّة الجبل المعروف بِ "مار الياس" بين اشتفينا وبلدة الوهادنه, على بعد ٩ كيلومتر إلى الشّمال الغربي من عجلون, ضمن منطقة حرجيّة تحيط بها الأشجار البرّية من كلّ جانب. ويرتفع الجبل المذكور حوالي ٩۰۰ متر عن سطح البحر, حيث كشفت تنقيبات سنة ١٩٩٩ عن وجود كنيسة بيزنطية ضخمة بمساحة ١٣٤۰ متر مربع تعود إلى القرن السادس الميلادي, إلى حقبة الإمبراطور كوتسنسيوس الثاني (٥٤١ - ٥٦٨ م). وتم العثور في الموقع على قطع المرمر والهيكل وبعض النقود. وتتميّز الكنيسة بأرضية جميلة من الفسيفساء. كما عُثر في عام ٢۰۰١ م على كنيسة أخرى صغيرة تقع بمحاذاة الأولى من الجهة الغربيّة, ويُعتقد أنها ترجع إلى فترة أقدم من الكنيسة الأولى.
أما سبب إكرام الأهلين لإيليّا النبي على قمّة ذاك الجبل, فلأن مسقط رأس النبي إيليّا يقع على بُعد كيلومتر واحد إلى الشمال الغربي منه, وهي البلدة المعروفة بإسم "لستب". ولإيليّا النبي مكانة عظيمة عند أهل هذه المنطقة بأكملها. ويذكر الكتاب المقدّس كلام الرّب لإيليّا قائلا: "إمض من ههنا وتوجّه شرقا وتوار عند نهر كريت الواقع شرقيّ الأردن, فتشرب من النهر, وقد أمرت الغربان أن تطعمك هناك. فمضى وصنع بحسب قول الرب, وذهب فأقام عند نهر كريت الواقع شرقيّ الأردن, فكانت الغربان تأتيه بخبز ولحم في الصباح, وخبز ولحم في المساء. وكان يشرب من النهر" (١ مل ١٧ / ٢ - ٦).
أما نهر كريت المذكور فهو اليوم وادي اليابس. وقد يستغرب المرء هذه التسمية وبخاصة عندما يعرف أن هذا الوادي ليس يابسا بل أخضرا ومناظره الطبيعيّة خلابة حقا. لكنه سمّي "بوادي اليابس" نسبة لإيليّا النبيّ, حيث تحولت كلمة "الياس" عبر العصور إلى "يابس", ولذلك أطلق عليه مؤخرا اسم وادي الرّيان.
وقد قدمت السائحة ايجيريا إلى الدّيار المقدّسة سنة ٣٩٤ م, ووصفت رحلتها في غور الأردن وأماكنه المقدّسة, فسلكت طريق القدس / اريحا. ومن ثمّ سارت من تل الرّامه إلى حسبان, ثمّ عادت إلى غور الأردن وتوجهت إلى الشمال, ذاكرة عين سالم, على بعد ١٢ كيلومترا جنوبي بيسان. وقد ذكر الإنجيل انه كان هناك ماء كثير, وكان يوحنا المعمدان يعمّد هناك قبل أن يُزج به هيرودس في السجن. وتقول ايجيريا: "بالقرب من غور الأردن وعلى جباله من جهة الشرق, نشاهد موطن النبي ايليّا التشبي". وتذكر لنا المغارة التي التجأ إليها هربا من وجه آحاب, ونهر كريت وادي اليابس الذي كان يشرب منه وحيث كانت تأتيه الغربان بالطعام صباحا ومساء. وفي المنطقة بأكملها عدد من القرى المبعثرة هنا وهناك, بُنيت على آثار قديمة, وكميّة من الحجارة القديمة من العهد الرومانيّ أو البيزنطيّ استعملها الأهلون لبناء بيوتهم.
وإذا أدّت بك التقوى أو حبّ الاطلاع إلى زيارة "مار الياس" اترك سيارتك على الطريق المعبدة في سفح الجبل, وتابع سيرك على الأقدام في طريق غير معبّدة توصلك إلى القمّة حيث الآثار. تمتع بمناظر الطبيعة الخلابة وسرّح نظرك إلى ما وراء الأردن, إلى بيسان وجبل طابور والناصرة, ولكن أيضا تمعّن الطريق التي تسلكها, فتجد الكثير من حجارة الفسيفساء المبعثرة والتي جرفتها الأمطار عبر العصور من قمّة الجبل إلى المنحدرات, وامسك بعضا منها في يدك وتأملها وقل في نفسك: إلى متى يا ترى نترك الطبيعة ويد الإنسان الغير مكترث يعيثان في كنوزنا التاريخيّة فسادا, ولا نضع حدا للعابثين؟