تأمل في معجزة احياء لعازر /ج2

كم من القلوب الجريحة والنفوس المضطربة ستجد راحة لها في هذه الكلمات, تلك التي تجلس في غرف شحّ النور فيها, وتنتظر ملاك الموت بصمت رهيب, وقلوب آباء وأمّهات بلّغهم خبر وفاة أبنائهم على أرض معركة نائية, أو في قعر محيط ثائر ابتلعته العاصفة.

وكم من حبيب وجد في تلك العبارات رجاءً وهو يقف في مقبرة يودّع مَن أحبّ, وقد أثقل قلبه فراغ هائلٌ خلّفه شبح الموت:

فراغ لن يملأه بعد اليوم أحد, ونغمات أصوات عذبة اضمحلّت في ظلمات الغيب إلى غير رجعة, وأيدٍ ينبع منها اللطف قد انشلّت, وابتسامة ملؤها الحنان كعقد الياسمين ذبلت...

وتبقى التعزية الحقيقيّة الوحيدة في تلك الحالات كافّة كامنة في قول المعلّم: "أنا القيامة والحياة".

وقد سكبت على قلب مرتا بلسماً من العزاء, جديداً أدركت فيه أنّ الموت إنما هو مدخل... بداية... ولادة جديدة... وزمن ربيع. وهكذا تبدّدت الآلام وانبثق لها فجر جديد.
سيبقى العالم يهتزّ بأسره كلّما أتى الموت يسلب إنساناً قطعةً من قلبه...

وأجهزة الإتصال من أرض المعارك لن تنفكّ ترمي بسهامها إلى قلوب الأزواج وقلوب الآباء والأمّهات في أزمنة الحروب... وتلك القلوب ستدمي وتدمي... ولكنّ مرارة الحزن والأسى وآلام القلب تلك لن تؤول بالناس إلى اليأس...

هنالك بلسم جديد وعزاء ورجاء: "أنا القيامة والحياة". هذا هو الأمل الذي يفعم قلب كلّ شابّ يسير نحو أرض المعركة... وذاك هو الرجاء الذي يتفجّر في النفس عندما يستودع طبيبٌ عناية الله مريضاً تعذّر على العلم شفاؤه...

الرجاء الذي سيبلسم يوماً جراح قلبك وقلبي عندما نفقد حبيباً أو نقف نحن على مشارف الأبديّة... إنّه المرتجى لكلّ شخص يؤمن بالذي قال: "أنا القيامة والحياة. مَن آمن بي وإن مات فسيحيا".

وإذا عادت مرتا تخبر مريم بقدوم يسوع, خرجت هي بدورها مسرعة للقائه, فلحق بها الجمع وتوجّه الكلّ مع يسوع إلى حيث دفن لعازر لأربعة أيّام خلت. ولمّا اقتربوا من المكان سألهم بشيء من اللهفة: "أين وضعتموه ؟". وعندما بلغ القبر يوجز لنا يوحنّا الإنجيليّ ما حدث بكلمات ثلاث من الصعب جداً على القارئ أن ينساها: "فدمعت عينا يسوع".

ماذا تعني لنا تلك الدموع ؟ أتراها تُحدّثنا عن ضعف في طبيعة الإنسان ؟ عن عدم تمكّن المرء أحياناً من السيطرة على مشاعره ؟ أترى أنّ خفقات قلب يسوع تسارعت إلى أن ضاق بها صدره, ففاضت دموعاً من عينيه ؟

هنالك جواب واحد عن تلك التساؤلات: لقد بكى يسوع لكي تدرك مرتا ومريم, ونعرف أنت وأنا كم أنّ قلب يسوع يحزن لأحزان البشر, وكم هو يشاركك ويشاركني عمق الأسى الذي نحسّ به عندما تزعزع حياتنا عاصفة الموت.

إنّ حبّ يسوع لن ينفكّ ينحني على جراح البشريّة يبلسمها ويلج القلوب المنسحقة يعيد إليها نبضات الرجاء...

وما تلك الدموع التي تفجّرت من عينيّ يسوع وتدحرجت فجأة على خدّيه, سوى علامة لما في قلبه من حبّ لكلّ متألّم, ومن عمق مشاركة للإنسان في ما يمرّ به من أحزان ويعترض حياته من مآسي.

إننا غالباً ما ننسى دموع يسوع تلك, فنعزل أنفسنا عمّا يكمن فيها من عزاء, وحده الكفيل في أن يُبلسم ما في نفوسنا من جراح, ويملأ الفراغ والوحشة التي تُعكّر صفو حياتنا.

يبدو لي أنّ أيّ أنسان لن يحسّ يوماً وكأنّه وحيد في حزنه, أو أنّ ما مِن يُبلسم جراحه, إذا ما تذكّر تلك الكلمات الثلاث: "فدمعت عينا يسوع". فعينا يسوع, المرغرغتان بالدموع, تبقيان منبعاً حقيقيّـاً للعزاء, ومصدراً صحيحاً للقوّة, إذا ما عرفنا كيف ننظر إليهما حين نكون في شدّة.

كان لعازر قد دفن في مغارة وُضع على مدخلها حجر. فقال يسوع: "إرفعوا الحجر". فشعرت مرتا بحراجة الموقف. وإنني أراها تقترب من يسوع وتهمس في أذنه علّها تحول دون دخوله المغارة, فيتعرّض لمشهد لا بدّ وأن يزيد من ألمه: "يا ربّ, لقد أنتن, فهذا يومه الرابع".

فأتى جواب يسوع, وكأنه فيه بعض ملامة, يشير, ولو بشكل مبطّن, إلى أنّ قدرة الله ستبدو جليّة مرّة أخرى, فتبدّل حزن بيت عنيا إلى فرح عامر: "ألم أقل لك إنك إن آمنت ترين مجد الله ؟" فلم يعد هناك من مجال للتردّد, فرفعوا الحجر ورفع يسوع عينيه وقال: "شكراً لك يا أبتِ على أنّك استجبتَ لي وقد علمتُ أنّك ستستجيب لي دائماً أبداً, ولكنّي قلتُ هذا من أجل الجمع المحيط بي, لكي يؤمنوا بأنّك أنتَ أرسلتني".

نحن على وشك رؤية غيوم الشكّ تتبدّد بقدرة الله, ويتدفّق نوره مشرقاً على أبناء تلك البلدة, وعلينا نحن أيضاً في كلّ زمان ومكان.

ثمّ صاح بأعلى صوته: "يا لعازر, هلمّ فاخرج".

فتوقّفت كلّ حركة وخيّم على الجمع سكونٌ رهيب. وتركّزت العيون على مدخل المغارة والقلوب تعيش لحظة انتظار, وها هو يسوع يضع نفسه وكلّ مصداقيّته على المحكّ.

إذا كان هو الله, فسوف يُثبتُ ذلك من دون شكّ, وستشهد عيون الناس ما يفوق كلّ قدرة بشريّة. ولكن إذا رفضت الحياة أن تنبعث من جديد في أشلاء ذاك الذي دُفن هنا منذ أربعة أيّام, تبدّدت كلّ آمال الناس بيسوع إلى غير رجعة, وأُدرج اسم ذاك الجليليّ في عداد أولئك اأنبياء الكذبة الذين حفلت بهم كتب التاريخ.

وفجأة حدث ما أذهل عقول الحاضرين, فوقفوا من دون حراك, وكأنّ كلّ الدنيا من حولهم قد توقّفت, غير متيقّنين إذا ما كانوا في حلم أو أنّ ما يحدث هو حقيقة! "خرج الميّت مشدود اليديْن والرجلين بالعصائب, ملفوف الوجه بمنديل".

ويقول لنا الإنجيليّ يوحنّا إنّه عندما بلغ الخبر عظماء الكهنة والفريّسيّين, حدث في صفوفهم اضطراب عظيم. فعقدوا مجلساً توافقوا فيه على أنّ شيئاً ما يجب القيام به لوضع حدّ لما يحدث, إذ إنّهم قالوا: "إذا تركناه وشأنه آمنوا به جميعاً, فيأتي الرومانيّون فيدمّرون حَرَمَنَا وأمّتنا".

كان مشهد روما الغاضبة طاغياً على عقول أولئك الرجال وقلوبهم, فقرّروا أنّ الأمر لا يقبل المجازفة, فابتسامة روما تبقى فوق كلّ اعتبار, ورضاها أول المبتغى. فماذا يفيدهم إذا ما ربحوا العالم كلّه وخسروا ابتسامة روما ؟

لو قيّض لأولئك الفرّيسيّين أن يقرأوا النبوءات وينظروا إلى الأمام, كما بوسعنا نحن الآن أن ننظر إلى الوراء, لكانوا قد أدركوا هشاشة ذاك المارد الجبّار, وكيف أنّه سيأتي يوم يرقد فيه منسياً تحت غبار الزمن, ويغدو مجرّد كومة من العظام البالية, ومجموعة آثار ينكبّ على دراستها الباحثون في علم الجيولوجيا ومجبّو عظائم التاريخ.

ولو قيّض لهم أن يُدركوا كم أنّ تلك البذور التي زُرعت في نائين وكفرناحوم وبيت عنيا سوف تُثمر أضعافاً أضعاف, ترويها دماء ملايين الشهداء, ويُغذّيها الثبات في وجه الاضطهاد, فتنمو لتمتدّ إلى أربعة أصقاع الأرض, قافزة فوق هضاب الدنيا وأوديتها على مدى ألفيّ عام من الزمن.

لو قيّض لعيونهم أن ترى عندما كان يوحنّا الإنجيليّ يتابع كلامه قائلاً: "فعزموا منذ ذلك اليوم على قتله".